الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} التميم: القصد يقال أمّ كردّ. وأمم كأخر، وتيمم بالتاء والياء، وتأمّم بالتاء والهمزة، وكلها بمعنى. وقال الخليل أممته قصدت أمامه، ويممته قصدته من أي جهة كانت. الخبيث: الرديء وهو ضد الطيب اسم فاعل من خبث. الإغماض: التساهل يقال: أغمض في حقه تساهل فيه ورضى به، والإغماض تغميض العين، وهو كالإغضاء. وأغمض الرجل أتى غامضاً من الأمر، كما يقال: أعمن وأعرق وأنجد، أي: أتى عمان والعراق ونجداً، وأصل هذه الكلمة من الغموض وهو: الخفاء، غمض الشيء يغمض غموضاً: خفي، وإطباق الجفن إخفاء للعين، والغمض المتطامن الخفي من الأرض. الحميد: المحمود فعيل بمعنى مفعول، ولا ينقاس، وتقدّمت أقسام فعيل في أول هذه السورة. وتفسير الحمد في أوّل سورته. النذر: تقدّمت مادّته في قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} وهو عقد الإنسان ضميره على فعل شيء والتزامه. وأصله من الخوف، والفعل منه. نذر ينذر وينذر، بضم الذال وكسرها، وكانت النذور من سيرة العرب يكثرون منها فيما يرجون وقوعه، وكانوا أيضاً ينذرون قتل أعدائهم كما قال الشاعر: الشاتمي عرضي، ولم أشتمهما *** والناذرين إذا لقيتهما دمي وأما على ما ينطلق شرعاً فسيأتى بيانه إن شاء الله. نعم: أصلها نعم، وهي مقابلة بئس، وأحكامها مذكورة في النحو، وتقدّم القول في: بئس، في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} التعفف: تفعل من العفة، عف عن الشيء أمسك عنه، وتنزه عن طلبه، من عشق فعف فمات مات شهيداً. أي: كف عن محارم الله تعالى، وقال رؤبة بن العجاج: فعف عن أسرارها بعد الغسق *** ولم يدعها بعد فرك وعشق السيما: العلامة، ويمد ويقال: بالسيمياء، كالكيمياء. قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعاً *** له سيمياء لا تشق على البصر وهو من الوسم، والسمة العلامة، جعلت فاؤه مكان عينه، وعينه مكان فائه، وإذا مدّ: سيمياء، فالهمزة فيه للإلحاق لا للتأنيث. الإلحاف: الإلحاح واللجاج في السؤال، ويقال: ألحف وأحفى، واشتقاق: الإلحاف، من اللحاف، لأنه يشتمل على وجوه الطلب في كل حال، وقيل: مِن: ألحف الشيء إذا غطاه وعمه بالتغطية، ومنه اللحاف. ومنه قول أبن أحمر: يظل يحفهنّ بقفقفيه *** ويلحفهنّ هفهافاً ثخينا يصف ذكر النعام يحضن بيضاً بجناحيه، ويجعل جناحه كاللحاف. وقال الشاعر: ثم راحوا عبق المسك بهم *** يلحفون الأرض هدّاب الأزر أي: يجعلونها كاللحاف للأرض، أي يلبسونها إياها. وقيل: اشتقاقه من لحف الجبل لما فيه من الخشونة، وقيل: من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده. {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} تضافرت النصوص في الحديث على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم لما أمروا بالصدقة كانوا يأتون بالأقناء من التمر فيعلقونها في المسجد ليأكل منها المحاويج، فجاء بعض الصحابة بحشف، وفي بعض الطرق: بشيص، وفي بعضها: برديء، وهو يرى أن ذلك جائز، فنزلت. وهذا الخطاب بالأمر بالإنفاق عامّ لجميع هذه الأمّة. قال علي، وعبيدة السلماني، وابن سيرين: هي في الزكاة المفروضة، وأنه كما يجوز التطوّع بالقليل فله أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا للوجوب. والظاهر من قول البراء بن عازب، والحسن، وقتادة: أنها في التطوع، وهو الذي يدل عليه سبب النزول ندبوا إلى أن لا يتطوّعوا إلا بجيد مختار. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله وحث عليها، وقبح المنة ونهى عنها، ثم ذكر القصد فيها من الرياء وابتغاء رضا الله، ذكر هنا وصف المنفق من المختار، وسواء كان الأمر للوجوب أو للندب. والأكثرون على أن: {طيبات ما كسبتم} هو الجيد المختار، وأن الخبيث هو الرديء. وقال ابن زيد: من طيبات، أي: الحلال والخبيث الحرام، وقال علي: هو الذهب والفضة. وقال مجاهد: هو أموال التجارة. قال ابن عطية: قوله: {من طيبات} يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط، ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنه في المكسوب عاماً، وتقريراً للنعمة. كما تقول: أطعمت فلاناً من مشبع الخبز، وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة، والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن من خبيث. انتهى كلامه. وظاهر قوله: {ما كسبتم} عموم كل ما حصل بكسب من الإنسان المنفق، وسعاية وتحصيل بتعب ببدن، أو بمقاولة في تجارة. وقيل: هو ما استقر عليه الملك من حادث أو قديم، فيدخل فيه المال الموروث لأنه مكسوب للموروث عنه. الضمير في: كسبتمن إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، وهو الظاهر. وقال الراغب: تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه، فاذن الموروث معقول من فحواه. إنتهى. وهو حسن. و: مِنْ، للتبعيض، وهي في موضع المفعول، و: ما، في {ما كسبتم} موصولة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية، فيحتاج أن يكون المصدر مؤولاً بالمفعول، تقديره: من طيبات كسبكم، أي: مكسوبكم. وظاهر الآية يدل على أن الأمر بالإنفاق عام في جميع أصناف الأموال الطيبة، مجمل في المقدار الواجب فيها، مفتقر إلى البيان بذكر المقادير، فيصح الإحتجاج بها في إيجاب الحق فيما وقع الخلاف فيه، نحو: أموال التجارة، وصدقة الخيل، وزكاة مال الصبي، والحلي المباح اللبس غير المعد للتجارة، والعروض، والغنم، والبقر المعلوفة، والدين، وغير ذلك مما اختلف فيه. وقال خويزمنداذ: في الآية دليل على جواز أكل الوالد من مال الولد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من مال أولادكم هنيأً» إنتهى. وروت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: «أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه» {ومما أخرجنا لكم من الأرض} يعني من أنواع الحبوب والثمار والمعادن والركاز، وفي قوله: أخرجنا لكم، امتنان وتنبيه على الإحسان التام كقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} والمراد: من طيبات ما أخرجنا، فحذف لدلالة ما قبله وما بعده عليه، وكرر حرف الجر على سبيل التوكيد، أو إشعاراً بتقدير عامل آخر، حتى يكون الأمر مرتين. وفي قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} دلالة على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من قليل وكثير من سائر الأصناف لعموم الآية، إذ قلنا إن الأمر للوجوب، وبين العلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرجت الأرض تذكر في كتب الفقه. {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} هذا مؤكد للأمر، إذ هو مفهوم من قوله: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} وفي هذا طباق بذكر الطيبات والخبيث. وقرأ البزي: ولا تيمموا، بتشديد التاء، أصله: تتيمموا، فأدغم التاء في التاء، وذلك في مواضع من القرآن، وقد حصرتها في قصيدتي في القراآت المسماة (عقدة اللآلئ) وذلك في أبيات وهي: تولوا بأنفال وهود هما معا *** ونور وفي المحنه بهم قد توصلا تنزل في حجر وفي الشعرا معاً *** وفي القدر في الأحزاب لا أن تبدّلا تبرجن مع تناصرون تنازعوا *** تكلم مع تيمموا قبلهن لا تلقف أنى كان مع لتعارفوا *** وصاحبتيها فتفرّق حصلا بعمران لا تفرقوا بالنساء أتى *** توفاهم تخيرون له انجلا تلهى تلقونه تلظى تربصو *** ن زد لا تعارفوا تميز تكملا ثلاثين مع احدى وفي اللات خلفه *** تمنون مع ما بعد ظلتم تنزلا وفي بدئه خفف، وإن كان قبلها *** لدى الوصل حرف المدِّ مُدَّ وطَوِّلا وروي عن أبي ربيعة، عن البزي: تخفيف التاء كباقي القراء، وهذه التاآت منها ما قبله متحرك، نحو: {فتفرق بكم} {فإذا هي تلقف} ومنها ما قبله ساكن من حرف المد واللين نحو: {ولا تيمموا} ومنها ما قبله ساكن غير حرف مدّولين نحو: {فإن تولوا} {ناراً تلظى} {إذ تلقونه} {هل تربصون} قال صاحب (الممتع): لا يجيز سيبويه إسكان هذه التاء في يتكلمون ونحوه، لأنها إذا سكنت احتيج لها ألف وصل، وألف الوصل لا تلحق الفعل المضارع، فإذا اتصلت بما قبلها جاز، لأنه لا يحتاج إلى همزة وصل. إلاَّ أن مثل {إن تولوا} و{إذ تلقونه} لا يجوز عند البصريين على حال لما في ذلك من الجمع بين الساكنين، وليس الساكن الأول حرف مدّ ولين. إنتهى كلامه. وقراءة البزي ثابتة تلقتها الأمة بالقبول، وليس العلم محصوراً ولا مقصوراً على ما نقله وقاله البصريون، فلا تنظر إلى قولهم: إن هذا لا يجوز. وقرأ عبد الله: ولا تأمموا، من: أممت، أي: قصدت. وقرأ ابن عباس، والزهري، ومسلم بن جندب: تيمموا. وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله ولا تأمّوا، من: أممت، أي: قصدت، والخبيث والطيب صفتان غالبتان لا يذكر معهما الموصوف إلاَّ قليلا، ولذلك جاء: {والطيبون للطيبات} وجاء: {والخبيثون للخبيثات} وقال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} وقال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بالله من الخبث والخبائث» و: منه، متعلق بقوله: تنفقون، والضمير في: منه، عائد على الخبيث. و: تنفقون، حال من الفاعل في: تيمموا، قيل: وهي حال مقدرة، لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، لأن في الكلام ضميراً يعود عليه، وأجاز قوم أن يكون الكلام في قوله: الخبيث، ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث، فقال: تنفقون منه، وأنتم لا تأخذونه إلاَّ إذا أغمضتم، أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، وفيه تنبيه على أن المنهي عنه هو القصد للرديء من جملة ما في يده، فيخصه بالإنفاق في سبيل الله، وأما إنفاق الرديء لمن ليس له غيره، أو لمن لا يقصده، فغير منهي عنه. {ولستم بآخذيه}. وقيل: هذه الجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: الواو للحال، فالجملة في موضع نصب. قال البراء، وابن عباس، والضحاك، وغيرهم: معناه: ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس، إلاَّ بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي: فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم. وقال الحسن: المعنى: ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع إلاَّ أن يهضم لكم من ثمنه. ورُوي نحوه عن علي. وقال البراء أيضاً: معناه: ولستم بآخذيه لو أهدي لكم إلاَّ أن تغمضوا، أي: تستحوا من المهدي أن تقبلوا من ما لا حاجة لكم به، ولا قدر له في نفسه. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلاَّ أن تغمضوا في مكروهه. والظاهر عموم نفي الأخذ بأي طريق أخذ الخبيث، من أخذ حق، أوهبة. والهاء في: بآخذيه، عائدة على الخبيث، وهي مجرورة بالإضافة، وأن كانت من حيث المعنى مفعولة. قال بعض المعربين: والهاء في موضع نصب: بآخذين، والهاء والنون لا يجتمعان، لأن النون زائدة، وهاء الضمير زائدة ومتصلة كاتصال النون، فهي لا تجتمع مع المضمر المتصل. إنتهى كلامه. وهو قول الأخفش: أن التنوين والنون قد تسقطان للطافة الضمير لا للإضافة، وذلك في نحو: ضاربك، فالكاف ضمير نصب، ومذهب الجمهور أنه لا يسقط شيء منها للطافة الضمير، وهذا مذكور في النحو. وقد أجاز هشام: ضاربنك، بالتنوين، ونصب الضمير، وقياسه جواز إثبات النون مع الضمير، ويمكن أن يستدل له بقوله: هم الفاعلون الخير والآمرونه *** وقوله: ولم يرتفق والناس محتضرونه *** {الا أن تغمضوا فيه} موضع أن نصب أو خفض عند من قدره إلاَّ بأن تغمضوا، فحذف الحرف، إذ حذفه جائز مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وهو موضع الحال، وقد قدمنا قبل، أن سيبويه لا يجيز انتصاب أن والفعل مقدراً بالمصدر في موضع الحال، وقال الفراء: المعنى معنى الشرط والجزاء، لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، ولكن إلاَّ وقعت على أن ففتحتها، ومثله: {الا أن يخافه} و{الا أن يعفون} هذا كله جزاء، وأنكر أبو العباس وغيره قول الفراء، وقالوا: أن، هذه لم تكن مكسورة قط، وهي التي تتقدّر، هي وما بعدها، بالمصدر، وهي مفتوحة على كل حال، والمعنى: إلاَّ بإغماضكم. وقرأ الجمهور: تغمضوا، من أغمض، وجعلوه مما حذف مفعوله، أي: تغمضوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازماً مثل: أغضى عن كذا، وقرأ الزهري تغمضوا بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه معنى قراءة الجمهور. وروي عنه: تغمضوا، بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم، مضارع: غمض، وهي لغة في أغمض، ورويت عن اليزيدي: تغمضوا، بفتح وضم الميم، ومعناه: إلاَّ أن يخفى عليكم رأيكم فيه. وروي عن الحسن: تغمضوا مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة تغمضوا، بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم، مخففاً، ومعناه: إلاَّ أن يغمض لكم. وقال أبو الفتح: معناه إلاَّ أن توجدوا قد أغمصتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم، كما تقول: أحمد الرجل أصيب محموداً، وقيل: معنى قراءة قتادة: إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. {واعلموا أن الله غني حميد} أي: غني عن صدقاتكم، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم، حميد أي: محمود على كل حال، إذ هو مستحق للحمد. وقال الحسن: يستحمد إلى خلقه، أي: يعطيهم نعماً يستدعي بها حمدهم. وقيل: مستحق للحمد على ما تعبدكم به. {الشيطان يعدكم الفقر} أي: يخوفكم بالفقر، يقول للرجل أمسك فإن تصدّقت افتقرت وروى أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ: الفقر، بضم الفاء، وهي لغة. وقرئ: الفقر، بفتحتين. {ويأمركم بالفحشاء} أي: يغريكم بها إغراء الآمر، والفحشاء: البخل وترك الصدقة، أو المعاصي مطلقاً، أو الزنا، أقوال. ويحتمل أن تكون الفحشاء: الكلمة السيئة، كما قال الشاعر: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم *** إذا جلسوا منا ولا من سوائنا وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق، ويأمره، إذ منع، بالرد القبيح على السائل، وبخه وأقهره بالكلام السيء. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ. وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير، فمن وجد ذلك فليحمد الله» ثم قرأ عليه السلام: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} الآية. وتقدّم وعد الشيطان على أمره، لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه، فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر، إذ الأمر استعلاء على المأمور. وقال الزمخشري: والفاحش عند العرب البخيل، وقال أيضاً: ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات، انتهى. فتكون الجملة الثانية كالتوكيد للأولى، ونظرنا إلى ما شرحه الشراح في الفاحش في نحو قول الشاعر: حتى تأوى إلى لا فاحش برم *** ولا شحيح إذا أصحابه غنموا وقال الآخر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدّد فقالوا: الفاحش السيء الخلق، ولو كان الفاحش هو البخيل لكان قوله: ولا شحيح، من باب التوكيد. وقال في قول امرئ القيس: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش *** إن معناه ليس بقبيح، ووافق الزمخشري أبا مسلم في تفسير الفاحش بالبخيل، والفحشاء بالبخل، قال بعضهم. وأنشد أبو مسلم قول طرفة: عقيلة مال الفاحش المتشدّد *** قال: والأغلب في كلام العرب، وفي تفسير البيت الذي أنشده أن الفاحش السيء الردّ لضيفانه، وسؤَّاله. قال: وقد وجدنا بعد ذلك شعراً يشهد لتأويل أبي مسلم أن الفحشاء البخل. وقال راجز من طيء: قد أخذ المجد كما أرادا *** ليس بفحاش يصر الزادا انتهى. ولا حجة في هذا البيت على أنه أراد بالفحاش البخيل، بل يحمل على السيء الخلق، أو السيء الردّ، ويفهم البخيل من قوله: يصر الزادا. {والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} أي ستراً لذنوبكم مكافأة للبذل، وفضلاً زيادة على مقتضى ثواب البذل. وقيل: وفضلاً، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثواباً عليه في الآخرة، ولما تقدّم قوله: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وكان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح والبخل بالجيد الذي مثيره الشيطان، بدئ بهذه الجملة من قوله {الشيطان يعدكم الفقر} وإن ما تصدّقتم من الخبيث إنما ذلك من نزغات الشيطان ليقبح لهم ما ارتكبوه من ذلك بنسبته إلى الشيطان، فيكون أبعد شيء عنه. ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين: أحدهما: الستر لما اجترحوه من الذنوب، والثاني: الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة. روي أن في التوراة: عبدي، أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة، وفي كتاب الله مصداقه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} {والله واسع عليم} أي: واسع بالجود والفضل على من أنفق، عليم بنيات من أنفق، وقيل: عليم أين يضع فضله، ووردت الأحاديث بتفضيل الإنفاق والسماحة وذمّ البخل، منها حديث البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فكل وأطعم ولا تصرر، فيعسر عليك الطلب» وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أردأ من البخل» {يؤتي الحكمة من يشاء} قرأ الربيع بن خيثم بالتاء في: تؤتي، وفي: تشاء، على الخطاب، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب، والحكمة: القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة: معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره. وقال، فيما رواه عنه أبو صالح: النبوّة، وقاله السدي. وقال إبراهيم، وأبو العالية، وقتادة: الفهم في القرآن. وقال مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه؛ وقال فيما رواه عنه ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل، وقاله مجاهد. وقال الحسن: الورع في دين الله، وقال الربيع بن أنس: الخشية، وقال ابن زيد، وأبوه زيد بن أسلم: العقل في أمر الله. وقال شريك: الفهم. وقال ابن قتيبة: العلم والعمل، لا يسمى حكيماً حتى يجمعهما. وقال مجاهد أيضاً: الكتابة. وقال ابن المقفع: ما يشهد العقل بصحته، وقال القشيري، وقال فيما روى عنه ابن القاسم: التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضاً: طاعة الله والفقه والدين والعمل به. وقال عطاء: المغفرة. وقال أبو عثمان: نور يفرق به بين الوسواس والمقام. ووجدت في نسخة: والإلهام بدل المقام. وقال القاسم بن محمد: أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك. وقال بندار بن الحسين: سرعة الجواب مع إصابة الصواب. وقال المفضل: الردّ إلى الصواب. وقال الكتاني: ما تسكن إليه الأرواح. وقيل إشارة بلا علة، وقيل: إشهاد الحق على جميع الأحوال. وقيل: صلاح الدين وإصلاح الدنيا. وقيل: العلم اللدني. وقيل: تجريد السر لورود الإلهام. وقيل: التفكر في الله تعالى، والاتباع له. وقيل: مجموع ما تقدّم ذكره: فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة. قال ابن عطية، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه: وهذه الأقوال كلها، ما عدا قول السدي، قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول، وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. انتهى كلامه. وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله: {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك، فلذلك فسرت هنا. {ومن يؤت الحكمة} قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهو ضمير: من، وهو المفعول الأول: ليؤت. وقرأ يعقوب: ومن يؤت، بكسر التاء مبنياً للفاعل. قال الزمخشري: بمعنى ومن يؤته الله. انتهى. فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك، ليس في يؤت ضمير نصب حذف، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط، كما تقول: أياً تعط درهماً أعطه درهماً. وقرأ الأعمش: ومن يؤته الحكمة، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول: ليؤت، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في: يؤت، عائد على الله تعالى. وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى، وللاعتناء بها، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها. {فقد أوتي خيراً كثيراً} هذا جواب الشرط، والفعل الماضي المصحوب: بقد، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ، مستقبل المعنى. كهذا. فهو الجواب حقيقة، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى، كقوله تعالى {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط، لأن الشرط مستقبل، وما ترتب على المستقبل مستقبل، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف، ودل هذا عليه، التقدير: وإن يكذبوك فتسلّ، فقد كذبت رسل من قبلك، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم. قال الزمخشري: وخيراً كثيراً، تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتي أيّ خير كثير. انتهى. وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره، أي خير كثير، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف، أي: فقد أوتي خيراً، أي خير كثير. ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف، تقول: مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر: دعوت امرأً، أيّ امرئ، فأجابني *** وكنت وإياه ملاذاً وموئلا وإذا تقرر هذا، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه؟ أي: إذا كانت صفة، فتقول: مررت برجل أيّ رجل كريم، أو لا يجوز؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي، وأيضاً ففي تقديره: أي خير كثير، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة مقامه، ولا يجوز ذلك إلاَّ في ندور، لا تقول: رأيت أي رجل، تريد رجلاً، أي رجل إلاّ في ندور. نحو قول الشاعر: إذا حارب الحجاج أيَّ منافق *** علاه بسيف كلما هُزَّ يقطع يريد: منافقاً، أي منافق، وأيضاً: ففي تقديره: خيراً كثيراً أيّ كثير، حذف أي الصفة، وإقامة المضاف إليه مقامها، وقد حذف الموصوف به، أي: فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل. {وما يذكر إلاًَّ أولوا الألباب}. أصله: يتذكر، فأدغم التاء في الذال، و: أولو الألباب، هم أصحاب العقول السليمة، وفي هذا حث على العمل بطاعة الله، والامتثال لما أمر به من الإنفاق، ونهى عنه من التصدّق بالخبيث، وتحذير من وعد الشيطان وأمره، ووثوق بوعد الله، وتنبيه على أن الحكمة هي العقل المميز به بين الحق والباطل، وذكر التذكر لما قد يعرض للعاقل من الغفلة في بعض الأحيان، ثم يتذكر ما به صلاح دينه ودنياه فيعمل عليه. {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه} ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله، أو سبيل الشيطان، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته، وأتى بالمميز في قوله: من نفقة، و: من نذر، وإن كان مفهوماً من قوله: وما أنفقتم، ومن قوله: أو نذرتم، من نذر، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، وقيل: تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر، والنذر على قسمين: محرم وهو كل نذر في غير طاعة الله، ومعظم نذور الجاهلية كانت على ذلك؛ ومباح مشروط وغير مشروط، وكلاهما مفسر، نحو: إن عوفيت من مرض كذا فعليّ صدقة دينار، ونحو: لله علي عتق رقبة. وغير مفسر، نحوه إن عوفيت فعليّ صدقة أو نذر، وأحكام النذر مذكورة في كتب الفقه. قال مجاهد معنى: يعلمه، يحصيه، وقال الزجاج: يجازي عليه، وقيل: يحفظه. وهذه الأقوال متقاربة. وتضمنت هذه الآية وعداً ووعيداً بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا، و: من نفقة، و: من نذر، تقدم نظائرها في الإعراب فلا تعاد، وفي قوله: من نذر، دلالة على حذف موصول قبل قوله: نذرتم، تقديره: أو ما نذرتم من نذر، لأن: من نذر، تفسير وتوضيح لذلك المحذوف، وحذف ذلك للعلم به، ولدلالة ما في قوله: وما أنفقتم، عليه، كما حذف ذلك في قوله: أمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء؟ التقدير: ومن يمدحه، فحذفه لدلالة: من، المتقدمة عليه، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول، فجاء الضمير مفرداً في قوله: {فإن الله يعلمه}، لأن العطف بأو، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفرداً، لأن المحكوم عليه هو أحدهما، وتارة يراعى به الأول في الذكر، نحو: زيد أو هند منطلق، وتارة يراعى به الثاني نحو: زيد أو هند منطلقة. وأما أن يأتي مطابقاً لما قبله في التثنية أو الجمع فلا، ولذلك تأوّل النحويون قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} بالتأويل المذكور في علم النحو، وعلى المهيع الذي ذكرناه، جاء قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} وقوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً} كما جاء في هذه الآية {فإن الله يعلمه} ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية، جعلوا إفراد الضمير مما يتأوّل، فحكي عن النحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقة فان الله يعلمها، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه. ثم حذف قال، وهو مثل قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} وقوله {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة} وقول الشاعر: نحن بما عندنا، وأنت بما *** عندك راضٍ، والرأي مختلف وقول الآخر: رماني بأمر كنت منه، ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطويّ رماني التقدير: نحن بما عندنا راضون، وكنت منه بريئاً، ووالدي بريئاً. انتهى. فأجرى أو مجرى الواو في ذلك. قال ابن عطية: ووحد الضمير في يعلمه، وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص. انتهى. وقال القرطبي: وهذا حسن، فإن الضمير يراد به جميع المذكور، وإن كثر انتهى. وقد تقدّم لنا ذكر حكم أو، وهي مخالفة للواو في ذلك، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في: أو. {وما للظالمين من أنصار} ظاهره العموم، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله، وقال مقاتل: هم المشركون. وقال أبو سليمان الدمشقي: هم المنفقون بالمن والأذى والرياء، والمبذورن في المعصية. وقيل: المنفقو الحرام. والأنصار: الأعوان جمع نصير، كحبيب وأحباب، وشريف وأشراف. أو: ناصر، كشاهد وأشهاد، وجاء جمعاً باعتبار أن ما قبله جمع، كما جاء: {وما لهم من ناصرين} والمفرد يناسب المفرد نحو: {مالك من الله من ولي ولا نصير} لا يقال: انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد، لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء، وحصول الإستعانة، فإذا لم يجدِ الجمع ولم يغنِ، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد. ولما بيَّن تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة والدنيا من المغفرة والفضل، وبين أن هذا الأمر والفرق بين الوعدين لا يدركه إلاَّ من تخصص بالحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده، رجع إلى ذكر النفقة والحث عليها، وأنها موضوعة عند من لا ينسى ولا يسهو، وصار ذكر الحكمة مع كونه متعلقاً بما تقدم كالاستطراد، والتنويه بذكرها، والحث على معرفتها. {إن تبدوا الصدقات} أي: إن تظهروا إعطاء الصدقات. قال الكلبي: لما نزلت: {وما أنفقتم من نفقة} الآية قالوا: يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت: {إن تبدوا الصدقات} وقال يزيد بن أبي حبيب: نزلت في الصدقه على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر، والصدقات ظاهر العموم، فيشمل المفروضة والمتطوّع بها. وقيل الألف واللام للعهد، فتصرف إلى المفروضة، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات، وبه قال الحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب. وقيل: المراد هنا صدقات التطوّع دون الفرض، وعليه جمهور المفسرين، وقاله سفيان الثوري. وقد اختلفوا: هل الأفضل إظهار المفروضة أم إخفاؤها؟ فذهب ابن عباس وآخرون إلى أن إظهارها أفضل من إخفائها. وحكى الطبري الإجماع عليه واختاره القاضي أبو يعلى، وقال أيضاً ابن عباس: إخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها، وروي عنه: صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. قال القرطبي: ومثل هذا لا يقال بالرأي، وانما هو توقيف، وقال قتادة: كلاهما إخفاؤه أفضل. وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فاظهارها أفضل. وقال ابن العربي: ليس في تفضيل صدقة السرّ على العلانية، ولا صدقة العلانية على صدقة السر، حديث صحيح. {فنعما هي} الفاء جواب الشرط، و: نعم، فعل لا يتصرف، فاحتيج في الجواب إلى الفاء والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا تكون مفردة في الوجود نحو: شمس وقمر. و: لا، متوغلة في الإبهام نحو غير. ولا أفعل التفضيل نحو أفضل منك، وذلك نحو: نعم رجلاً زيد، والمضمر مفرد وإن كان تمييزه مثنى أو مجموعاً، وقد أعربوا: ما، هنا تمييزاً لذلك المضمر الذي في نعم، وقدروه بشيئاً. فما، نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة، وقد تقدّم الكلام على: ما، اللاحقة لهذين الفعلين، أعنى: نعم وبئس، عند قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا} وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وهي: ضمير عائد على الصدقات، وهو على حذف مضاف أي: فنعما، ابداؤها، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء، والتقدير في: فنعما هي، فنعما الصدقات المبدأة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه، وجملة المدح خبر عنه، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في: نعم. وقرأ ابن كثير، وورش، وحفص: فنعما، بكسر النون والعين هنا وفي النساء، ووجه هذه القراءة أنه على لغة من يحرك العين، فيقول: نعم، ويتبع حركة النون بحركة العين، وتحريك العين هو الأصل، وهي لغة هذيل، ولا يكون ذلك على لغة من أسكن العين، لأنه يصير مثل: جسم مالك، وهو لا يجوز إدغامه على ما ذكروا. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: فنعما، فيهما بفتح النون وكسر العين. وهو الأصل، لأن وزنه على فعل. وقال قوم: يحتمل قراءة كسر العين أن يكون على لغة من أسكن، فلما دخلت ما وأدغمت حركت العين لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون وإخفاء حركة العين، وقد روي عنهم الإسكان، والأول أقيس وأشهر، ووجه الإخفاء طلب الخفة، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد، وقال: الإسكان، فيما يروى، لغة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اللفظ، قال لعمرو بن العاص: «نعما المال الصالح للرجل الصالح» وانكر الإسكان أبو العباس، وأبو إسحاق، وأبو علي لأن فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدّه. وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه. وقال أبو إسحاق: لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث، وقال أبو علي: لعل أبا عمرو أخفى، فظنه السامع إسكاناً. وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع، وفي بعض تاآت البزي، وفي: اسطاعوا وفي: يخصمون. إنتهى ما لخص من كلامهم. وإنكار هؤلاء فيه نظر، لأن أئمة القراءة لم يقرأوا إلاَّ بنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا، تطرق إليهم فيما سواه، والذي نختاره ونقوله: إن نقل القراآءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه. {وإن تخفوها} الضمير المنصوب في: تخفوها، عائد على الصدقات، لفظاً ومعنى، بأي تفسير فسرت الصدقات، وقيل: الصدقات المبداة هي الفريضة، والمخفاة هي التطوّع، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظاً لا معنى، فيصير نظير: عندي درهم ونصفه، أي: نصف درهم آخر، كذلك: وان تخفوها، تقديره: وان تخفوا الصدقات غير الأولى، وهي صدقة التطوّع، وهذا خلاف الظاهر، والأكثر في لسان العرب، وإنما احتجنا في: عندي درِهم ونصفه، إلى أن نقول: إن الضمير عائد على الدرهم لفظاً لا معنى لاضطرار المعنى إلى ذلك، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهماً ونصف هذا الدرهم الذي عنده. وكذلك قول الشاعر: كأن ثياب راكبه بريح *** خريق وهي ساكنة الهبوب يريد: ريحاً أخرى ساكنة الهبوب. {وتؤتوها الفقراء} فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء. {فهو خير لكم} الفاء جواب الشرط، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: {وإن تخفوها} التقدير: فالإخفاء خير لكم، ويحتمل أن يكون: خير، هنا أريد به خير من الخيور، و: لكم، في موضع الصفة، فيتعلق بمحذوف. والظاهر انه أفعل التفضيل، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه وهو الإبداء، والتقدير: فهو خير لكم من إبدائها. وظاهر الآية: أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل، سواء كانت فرضاً أو نفلاً، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدّق فيها عن الرياء والمنّ والأذى، ولو لم يعلم الفقير بنفسه، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك. قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. وقال العباس بن عبد المطلب: لا يتم المعروف إلاَّ بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره في نفسك، وستره. فإذا عجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال سهل بن هارون: يخفي صنائِعَه والله يظهرها *** إن الجميل اذا أخفيته ظهرا وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وفي قوله: وتؤتوها الفقراء طباق معنوى، لأنه لا يؤتي الصدقات إلاَّ الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ. وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه. {ويكفر عنكم من سيآتكم} قرأ بالواو الجمهور في: ويكفر، وباسقاطها وبالياء والتاء والنون، وبكسر الفاء وفتحها، وبرفع الراء وجزمها ونصبها، فاسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء، ووجه أن بدل على الموضع من قوله: فهو خير لكم لأنه في موضع جزم، وكأن المعنى: يكن لكم الإخفاء خيراً من الإبداء، أو على إضمار حرف العطف: أي ويكفر. وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء. وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء. وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء، وكذلك قرأ عكرمة إلاَّ أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن هرمز، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة، وشهر بن حوشب: بالتاء ونصب الراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون والجزم، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء. فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى، كقراءة من قرأ: ونكفر، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك، وقيل: يعود على الصرف، أي صرف الصدقات، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي: ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف، أي: ونحن نكفر، أي: وهو يكفر، أي: الله. أو الإخفاء أي: وهي تكفر أي: الصدقة. ويحتمل أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام، ويحتمل أن يكون معطوفاً على محل ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعاً، كقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء، إذ هي في موضع جزم، كقوله: {ومن يضلل الله فلا هادي} ونذرهم، في قراءة من جزم، ونذرهم، ومن نصب الراء فبإضمار: أن، وهو عطف على مصدر متوهم، ونظيره قراءة من قرأ {يحاسبكم به الله فيغفر} بنصب الراء، إلاَّ أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله: فهو خير لكم، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله: يحاسبكم، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران. وقال الزمخشري: ومعناه: وإن تخفوها يكن خيراً لكم، وأن نكفر عنكم. إنتهى. وظاهر كلامه هذا أن تقديره: وأن نكفر، يكون مقدّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على: خيراً، خبر يكن التي قدرها كأنه قال: يكن الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون: أن يكفر في موضع نصب. والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع، تقديره من المعنى، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدّثنا، فالتقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، وكذلك إن تجيء وتحسن إلي أحسن إليك، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك. وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط. كالتقدير الذي قدّرناه في: {يحاسبكم به الله} في قراءة من نصب، فيغفر، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير. وقال المهدوي: في نصب الراء: هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. وقال ابن عطية: بالجزم في الراء أفصح هذه القراآت لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى. إنتهى. ونقول: إن الرفع أبلغ وأعم، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني، والرفع يدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات، أبديت أو أخفيت، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله، ولا يختص التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصصه به، ولا يمكن أن يقال: إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته، فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها، وإن كان الإخفاء خيراً من الإبداء. و: من، في قوله: من سيآتكم، للتبعيض، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات. وحكى الطبري عن فرقة قالت: من، زائدة في هذا الموضع. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ، وقول من جعلها سببية وقدر: من أجل ذنوبكم، ضعيف. {والله بما تعملون خبير} ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الاشياء وخفي، فناسب الرفع ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي، والله أعلم. {ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} اختلف النقل في سبب نزول هذه الآية، ومضمونها أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك، أو على المشركين، أو نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم من التصدق عليهم، أو امتنع هو من ذلك، وقد سأله يهودي، فنزلت هذه الآية. وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال، وهو مصدر مضاف للمفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، أي: خلق الهدى في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه، وليس بمراد هنا. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو نظير: {إن عليك إلا البلاغ} فالمعنى: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، هداهم ليس إليك. وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلاً للضلال الذي يراد به الكفر، فقال: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره، وما عليك إلاَّ أن تبلغهم النواهي فحسب، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله: {ولكن الله يهدي من يشاء} فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان. وقال الزمخشري قوله: {ولكن الله يهدي من يشاء} تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه، فينتهي عما نهى عنه. إنتهى. فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال، وإنما حمله على هدى خاص، وهو خلاف الظاهر، كما قلنا. وقيل: الهداية هنا الغنى أي: ليس عليك أن تغنيهم، وإنما عليك أن تواسيهم، فإن الله يغني من يشاء. وتسمية الغنى: هداية، على طريقة العرب من نحو قولهم: رشدت واهتديت، لمن ظفر، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر: فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري، وفي قوله: هداهم، طباق معنوي، إذ المعنى: ليس عليك هدى الضالين، وظاهر الخطاب في: ليس عليك، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم. ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله: {يؤتي الحكمة من يشاء} الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين: من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال. فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين، تجوز الصدقة عليهم. وقيل: المعنى في: {ليس عليكم هداهم} هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل المطلوب منهم الإيمان على سبيل الطوع والاختيار. وفي قوله: {ولكن الله يهدي من يشاء} رد على القدرية، وتجنيس مغاير إذ: هداهم اسم، ويهدي فعل. {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي: فهو لأنفسكم، لا يعود نفعه ولا جدواه إلاَّ عليكم، فلا تمنوا به، ولا تؤذوا الفقراء، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر، فإن ثوابه إنما هو لكم. وقال سفيان بن عيينة: معنى: فلأنفسكم، فلأهل دينكم، كقوله تعالى: {فسلموا على أنفسكم} {ولا تقتلوا أنفسكم} أي: أهل دينكم، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوّع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار. وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيراً من المعروف، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً قط، فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو هذه الآية. وروي عن عليّ، كرم الله وجهه، أنه كان يقول: ما أحسنت إلى أحد قط، ولا أسأت له ثم يتلو: {وان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} {وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله} أي: وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلاَّ ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله، فإذا عريت من هذا القصد فلا يعتد بها فهذا خبر شرط فيه محذوف أي: وما تنفقون النفقة المعتدة القبول، فيكون هذا الخطاب للأمة. وقيل: هو خير من الله أن نفقتهم أي: نفقة الصحابة، رضي الله عنهم، ما وقعت إلاّ على الوجه المطلوب من ابتغاء وجه الله، فتكون هذه شهادة لهم من الله بذلك، وتبشيراً بقبولها، إذ قصدوا بها وجه الله تعالى، فخرج هذا الكلام مخرج المدح والثناء، فيكون هذا الخطاب خاصاً بالصحابة. وقال الزمخشري: وليست نفقتكم إلاَّ لابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وهذا فيه إشارة إلى مذهب المعتزلة، من أن الصدقة وقعت صحيحة، ثم عرض لها الإبطال. بخلاف قول غيرهم: إن المن والأذى قارنها. وقيل: هو نفي معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله، ومجازه أنه: لما نهى عن أن يقع الإنفاق إلاَّ لوجه الله، حصل الامتثال، وإذا حصل الامتثال، فلا يقع الإنفاق إلاَّ لإبتغاء وجه الله، فعبر عن النهي بالنفي لهذا المعنى. وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال تقديره: مبتغين، وعبر بالوجه عن الرضا، كما قال: ابتغاء مرضاة الله، وذلك على عادة العرب، وتنزه الله عن الوجه بمعنى: الجارحة، وقد تقدم الكلام على نسبة الوجه إلى الله في قوله: {فثم وجه الله} مستوفى، فأغنى عن إعادته. {وما تنفقوا من خير يوف اليكم} أي: يوفر عليكم جزاؤه مضاعفاً، وفي هذا، وفيما قبله، قطع عذرهم في عدم الإنفاق، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه، فيوفون كاملاً موفراً، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها، وقد جاء قوله تعالى: {ويربي الصدقات} وقوله، صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: «إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد» والضمير في: يوفَّ، عائد على: ما، ومعنى توفيته: إجزال ثوابه. {وأنتم لا تظلمون} جملة حالية، العامل فيها يوفَّ. والمعنى: أنكم لا تنفقون شيئاً من ثواب إنفاقكم. {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} قال ابن عباس، ومقاتل: هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، وكانوا نحواً من أربعمائة. وقال مجاهد: هم فقراء المهاجرين من قريش، ثم يتناول من كان بصفة الفقر، وقال سعيد بن جبير: هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا زمنى، واختار هذا الكسائي، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس من العدو لقال: حصروا، وقد تقدّم الكلام على الإحصار والحصر في قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر، وحكاه ابن سيده. وقال السدي: أحصروا من خوف الكفار، إذ أحاطوا بهم، وقال قتادة: حبسوا أنفسهم للغزو، ومنعهم الفقر من الغزو، وقال محمد بن الفضل: منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلاَّ إلى الله. وقال الزمخشري: أحصرهم الجهاد، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضرباً في الأرض للكسب. إنتهى. و: للفقراء، في موضع الخبر لمبتدأ محذوف، وكأنه جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل: للفقراء، أي: هي للفقراء. فبين مصرف النفقة. وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف، تقديره: أعجبوا للفقراء، أو اعمدوا للفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، وأبعد القفال في تقدير: إن تبدوا الصدقات للفقراء، وكذلك من علقه بقوله: {وما تنفقوا من خير} وكذلك من جعل: للفقراء، بدلاً من قوله: فلأنفسكم، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك. {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} أي تصرفاً فيها، إمّا لِزِمْنِهم وإمّا لخوفهم من العدو لقلتهم، فقلتهم تمنعهم من الاكتساب بالجهاد، وانكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة، فبقوا فقراء. وهذه الجملة المنفية في موضع الحال، أي: أحصروا عاجزين عن التصرف. ويجوز أن تكون مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب. {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين حيث وقع، وهو القياس، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين. وقرأ باقي السبعة بكسرها، وهو مسموع في الفاظ، منها: عمد يعمد ويعمد، وقد ذكرها النحويون، والفتح في السين لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، والمعنى: أنهم لفرط انقباضهم، وترك المسألة، واعتماد التوكل على الله تعالى، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء، و: من، سببية، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف، ولا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل، لأن فاعل يحسب هو: الجاهل، وفاعل التعفف هو: الفقراء. وهذا الشرط هو على الأصح، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له، لأنه معرف بالألف واللام، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب، وإن كان يجوز نصبه، لكنه قليل كما أنشدوا. لا أقعد الجبن عن الهيجاء *** أي: للجبن، وإنما عرف المفعول له، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً، فصار معهوداً منهم. وقيل: من، لابتداء الغاية، أي من تعففهم ابتدأت محسبته، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء مال، فمحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، وكونها للسبب أظهر، ولا يجوز أن تتعلق: من، بأغنياء، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أن المعنى: حالهم يخفى على الجاهل به، فيظن أنهم أغنياء، وعلى تعليق: من، بأغنياء يصير المعنى: أن الجاهل يظن أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغني بالتعفف فقير من المال، وأجاز ابن عطية أن تكون: من، لبيان الجنس، قال: يكون التعفف داخلاً في المحسبة، أي: أنهم لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل. وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة. فمن، لبيان الجنس على هذا التأويل. إنتهى. وليس ما قاله من أن: من، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس، لأن لها إعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف، نحو: {فاجتنبوا الرجز من الأوثان} التقدير: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. ولو قلت هنا: يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف، لم يصح هذا التقدير، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف، لا غنى بالمال. فتسمى: من، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية، لكنها تتعلق: بأغنياء، لا: بيحسبهم، ويحتمل أن يكون: يحسبهم، جملة حالية، ويحتمل أن يكون مستأنفة. {تعرفهم بسيماهم} الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم، ويحتمل أن يكون المعنى: تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر، من: رثاثة الأطمار، وشحوب الألوان لأجل الفقر. وقال مجاهد: السيما الخشوع والتواضع، وقال السدي: الفاقة، والجوع في وجوههم، وقلة النعمة. وقال ابن زيد: رثاثة أثوابهم، وصفرة وجوههم. وقيل: أثر السجود، واستحسنه ابن عطية، قال: لأنهم كانوا متفرغين للعبادة، فكان الأغلب عليهم الصلاة. وقال القرطبي: هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} إلا إن كان يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر، وأما من فسر السيما بالخشوع، فالخشوع محله القلب، ويشترك فيه الغني والفقير، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهراً إنما هو: رثاثة الحال، وشحوب الألوان. وللصوفية في تفسير السيما مقالات. قال المرتعش: عزتهم على الفقر، وقال الثوري: فرحهم بالفقر، وقال أبو عثمان: إيثار ما عندهم مع الحاجة إليه، وقيل: تيههم على الغني، وقيل: طيب القلب وبشاشة الوجه. والباء متعلقة: بتعرفهم، وهي للسبب، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها، من الحالية، ومن الاستئناف. وفي هذه الآية طباق في موضعين: أحدهما: في قوله: أحصروا وضربا في الأرض، والثاني: في قوله: للفقراء وأغنياء. {لا يسألون الناس إلحافاً} إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد، فالأكثر في لسان العرب إنصراف النفي لذلك القيد، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم، ونفي الإلحاح أي: وإن وقع منهم سؤال، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح، فلا يكون النفي على هذا منصباً على القيد فقط. قال ابن عباس: لا يسألون إلحافاً ولا غير إلحاف، ونظير هذا: ما تأتينا فتحدثنا. فعلى الوجه الأول: ما تأتينا محدثاً، إنما تأتي ولا تحدث، وعلى الوجه الثاني: ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح. ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره، لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول لأنه نفي الأول على سبيل العموم، فتنفي مترتباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث، انتفت جميع مترتبات الإتيان من: المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض مّا عن سائر المترتبات، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية، بقول الشاعر: على لاحبٍ لا يهتدي بمناره *** إنما هو مطلق انتفاء الشيئين، أي لا سؤال ولا إلحاف. وكذلك: هذا لا منار ولا هداية، لا إنه مثله في خصوصية النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصح: لا إلحاف فلا سؤال، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب: لا يلحفون الناس سؤالاً، لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص، فتلخص من هذا كله: أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه، ونبه على بعضها بالذكر لغرض مّا، وتارة يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه، والمقصود نفيه، فينتفي لنفيه عوارضه. وقال ابن عطية: تشبيهه، يعني الزجاج، الأية ببيت امرئ القيس غير صحيح، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال، وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، وقررنا ذلك. وقيل: معنى إلحافاً أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه، أي: لا يسألون الناس بالرفق والتلطف، وإذا لم يوجد هذا، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى، وقيل: معنى إلحافاً أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال، أي: لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في: تركهم، السؤال، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد، وقيل: من سأل، فلا بد أن يلح، فنفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجب لنفي السؤال مطلقاً. وقيل: هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر، والمعنى: أنهم لا يضمون إلى السكوت من رثاثة الحال والإنكسار، وما يقوم مقام السؤال الملحّ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً، وأن تكون مستأنفة. ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال لذي حالٍ، وهي مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو. وجوزوا في إعراب: إلحافاً، أن يكون مفعولاً من أجله، وأن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه: يسألون، فكأنه قال: لا يلحفون. وأن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} تقدّم: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} وليس على سبيل التكرار، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول: ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه، وأنه عائد إليه جزاؤه، والثاني: ذكر أن ذلك الجزاء الناشيء عن الخير يوفاه كاملاً من غير نقص ولا بخس، والثالث: ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير، ومقداره، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو: العلم.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية} قال أبو ذر، وأبو الدرداء، وابن عباس، وأبو أمامة، وعبد الله بن بشر الغافقي، ومكحول، ورباح بن بريد، والأوزاعي: هي في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله، ومرتبطها. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية. وقال ابن عباس أيضاً، والكلبي: نزلت في علي، كانت عنده أربعة دراهم، قال الكلبي، لم يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية. وقال ابن عباس أيضاً: نزلت في عليّ بعث بوسق تمر إلى أهل الصفة ليلاً، وفي عبد الرحمن بن عوف بعث إليهم بدراهم كثيرة نهاراً. وقال قتادة: نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. إنتهى. وقيل: نزلت في أبي بكر، تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في الجهر. والآية، وإن نزلت على سبب خاص، فهي عامة في جميع ما دلت عليه ألفاظ الآية، والمعنى أنهم، فيما قال الزمخشري: يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها، ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت ولا حال. إنتهى. ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين، ولا في إحدى الحالتين اعتماداً على الآية قبلها، وهي: {إن تبدوا الصدقات} أو جاء تفصيلاً على حسب الواقع من صدقة أبي بكر، وصدقة علي، وقد يقال: إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية، والليل مظنة صدقة السر، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل، والحال التي كانت فيها أفضل. والباء في: بالليل، ظرفية، وانتصاب: سراً وعلانية، على أنهما مصدران في موضع الحال أي: مسرين ومعلنين، أو: على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه، أو: نعتان لمصدر محذوف أي: إنفاقاً سراً، على مشهور الإغراب في: قمت طويلاً، أي قياماً طويلاً. {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} تقدّم تفسير هذا فلا نعيده، ودخلت: الفاء في فلهم، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه. قال ابن عطية: وإنما يوجد الشبه، يعني بين الموصول واسم الشرط، إذا كان: الذي، موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير معناه. إنتهى. فحصر الشبه فيما إذا كان: الذي، موصولاً بفعل، وهذا كلام غير محرر، إذ ما ذكر له قيود: أولها: أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء. الثاني: قوله موصولاً بفعل، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يكون قابلاً لأداة الشرط، فلو قلت: الذي يأتيني، أو: لما يأتيني، أو: ما يأتيني، أو: ليس يأتيني، فله درهم، لم يجز لأداة الشرط، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك، فمتى كانت الصلة واحداً منهما جاز دخول الفاء. وقوله: وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير معناه عبارة غير مخلصة، لأن العامل الداخل عليه كائناً ما كان لا يغير معنى الموصول، إنما ينبغي أن يقول: معنى جملة الابتداء في الموصول، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من: تمن، أو تشبيه، أو ظن، أو غير ذلك. لو قلت: الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز، وكان ينبغي أيضاً لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقاً بالصلة، نحو ما جاء في الآية، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاماً طويلاً، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل، قد ذكرنا ذلك في كتاب (التذكرة) من تأليفنا.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} الربا: الزيادة يقال: ربا يربو وأرباه غيره: وأربى الرجل، عامل بالربا، ومنه الربوة والرابي. وقال حاتم: وأسمر خطيا كأن كعوبه *** نوى القشب قد أربى ذراعاً على العشر وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة، وبالألف. وتبدل الباء ميماً قالوا: الرما، كما أبدلوها في كتب قالوا: كتم، ويثنى: ربوان، بالواو عند البصريين، لأن ألفه منقلبة عنها. وقال الكوفيون: ويكتب بالياء، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو: ضحى، فتقول: ربيان وضحيان، فإن كان مفتوحاً نحو: صفا، فاتفقوا على الواو. وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم. تخبط: تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي: خبط عشواء، وتورط في عمياء وقول علقمة: وفي كل حي قد خبطت بنعمة *** أي: أعطيت من أردت بلا تمييز كرماً. سلف: مضى وانقضى، ومنه سالف الدهر أي ماضيه. عاد عوداً: رجع، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار، وأنشد: تعد فيكُمُ جزر الجزور رماحنا *** ويرجعن بالأسياف منكسرات المحق: نقصان الشيء حالاً بعد حال. ومنه: المحاق في الهلال، يقال: محقه الله فانمحق وامتحق أنشد الليث: يزداد حتى إذا ما تمَّ أعقبه *** كرّ الجديدين نقصاً ثم ينمحق {الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب، ولا يكون من الخبيث. فذُكر نوع غالب عليهم في الجاهلية، وهو: خبيث، وهو: الربا، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا، وأيضاً فتظهر مناسبة أخرى، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال، والربا فيه زيادة مال، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه، كقوله: {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} وقول الشاعر: ومسنونة زرق كأنياب أغوال *** وقول الآخر: خيلاً كأمثال السعالي شرّباً *** وقول الآخر: بخيل عليها جنّة عبقريّة *** والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل، وأن الخبر: عنهم، مختص بالآكل الربا، وقيل: عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه، كما قال تعالى: {وأخذهم الربا} وقيل: الربا هنا كناية عن الحرام، لا يخص الربا الذي في الجاهلية، ولا الربا الشرعي. وقرأ العدوي: الربو، بالواو وقيل: وهي لغة الحيرة، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو، فقال: هذه أفعو، فأجرى القارئ الوصل إجراء الوقف. وحكى أبو زيد: أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة، وهي قراءة بعيدة، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياءً وتلك الضمة كسرة، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال: في أفعى: أفعو، في الوقف. وأن القارئ إما أنه لم يضبط حركة الباء، أو سمى قربها من الضمة ضماً. و: لا يقومون، خبر عن: الذين، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية، وهو بعيد جداً، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه. وظاهر هذا الإخبار أنه إخبار عن الذين يأكلون الربا، وقيل: هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك، بدليل قولهم: {إنما البيع مثل الربى} وقوله: {والله لا يحب كل كفار أثيم} وقوله: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة. وقال ابن عباس، ومجاهد، وجبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وابن زيد: معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلاَّ كالمجانين، عقوبة لهم وتمقيتاً عند جمع المحشر، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله: لا يقومون يوم القيامة. وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا، فجوزي في الآخرة بمثل فعله. وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أكلة الربا، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره قد جن. هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله: وتصبح عن غب السرى وكأنها *** ألمَّ بها من طائف الجن أولق لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. انتهى كلامه. وهو حسن، إلاَّ كما يقوم الكاف في موضع الحال، أو نعتاً لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره، وتقدم في مواضع. و: ما، الظاهر أنها مصدرية، أي: كقيام الذي، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلاَّ كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان. قيل: معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهراً لبطن، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره. وظاهر الآيه أن الشيطان يتخبط الإنسان، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس، وليس في العقل ما يمنع من ذلك، وقيل: ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه، فنسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم، وقيل: أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، فورد على ما كانوا يعتقدون، يقولون: رجل ممسوس، وجُنَّ الرجل. قال الزمخشري: ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات. إنتهى. وتخبط هنا: تفعَّل، موافق للمجرد، وهو خبط، وهو أحد معاني: تفعل، نحو: تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه. من المس، المس الجنون يقال: مس فهو ممسوس وبه مس. أنشد ابن الأنباري، رحمة الله تعالى: أعلل نفسي بما لا يكون *** كذي المس جن ولم يخنق وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، وسمي الجنون مساً كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد، ويتعلق: من المس، بقوله: يتخبطه، وهو على سبيل التأكيد، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلاَّ من المس، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي، فأزال قوله: من المس، هذا الاحتمال. وقيل: يتعلق: بيقوم، أي: كما يقوم من جنونه المصروع. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق قوله: من المس؟. قلت: بلا يقومون، أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلاَّ كما يقوم المصروع. إنتهى. وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون، وهو الذي ذهب إليه في تعلق: من المس، بقوله: لا يقومون، ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه قد شرح المس بالجنون، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلاَّ في الآخرة، وهناك ليس بهم جنون ولا مس، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا، فيكون المعنى: لا يقومون يوم القيامة، أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع. والوجه الثاني: أن: ما، بعد: إلاَّ، لا يتعلق بما قبلها، إلاَّ إن كان في حيز الاستثناء، وهذا ليس في حيز الاستثناء، ولذلك منعوا أن يتعلق {بالبينات والزبر} بقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً} وان التقدير: ما أرسلنا بالبينات والزبر إلاَّ رجالاً. {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربى} الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة، ويكون مبتدأ، والمجرور الخبر، أي: ذلك القيام كائن بسبب أنهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره: قيامهم ذلك إلاَّ أن في هذا الوجه فصلاً بين المصدر ومتعلقه الذي هو: بأنهم، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر، وقدّره الزمخشري: ذلك العقاب بسبب أنهم، والعقاب هو ذلك القيام، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا، أي: مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم، ولم يعكسوا تنزيلاً لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع، وهذا من عكس التشبيه، وهو موجود في كلام العرب. قاله ذو الرمّة: ورمل كأروال العذارى قطعته *** وهو كثير في أشعار المولدين، كما قال أبو القاسم بن هانيء: كأن ضياء الشمس غرّة جعفر *** رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفاً وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه، فيقول: زدني في الأجل وأزيدك في المال، فيفعلان ذلك ويقولان: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند المحل لأجل التأخير، فكذبهم الله تعالى. وقيل: كانت ثقيف أكثر العرب رباً، فلما نهوا عنه قالوا: إنما هو مثل البيع. {وأحل الله البيع وحرّم الربا}. ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم، وفي ذلك ردّ عليهم إذ ساووا بينهما، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو: أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقال بعض العلماء: قياسهم فاسد، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها، بخلاف البيع، فإن الثمن مقابل بالمثمن.. قال جعفر الصادق: حرم الله الربا ليتقارض الناس، وقيل: حرم لأنه متلف للأموال، مهلك للناس. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون: {وأحل الله البيع وحرم الربا} من كلامهم، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم، فكان ذلك كفراً منهم. والظاهر: عموم البيع والربا في كل بيع، وفي كل ربا، إلاَّ ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان، فلا يقدّم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلاَّ ببيان، وهذا فرق ما بين العام والمجمل، وقيل: هو عموم دخله التخصيص، ومجمل دخله التفسير، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه. والظاهر أن الآية كما قالوا في الكفار، لقوله: {فله ما سلف} لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف، بل ينقض ويردّ فعله، وإن كان جاهلاً بالتحريم، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية. {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} حذف تاء التأنيث من: جاءته، للفصل، ولأن تأنيث الموعظة مجازي. وقرأ أبيّ، والحسن: فمن جاءته بالتاء على الأصل، وتلت عائشة هذه الآية سألتها العالية بنت أبقع، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقداً من زيد بن أرقم، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه، فقالت عائشة: بئسما شريت وما اشتريت، فابلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن يتوب، فقالت العالية: أرأيت إن لم آخذ منه إلاَّ رأس مالي؟ فتلت الآية عائشة. والموعظة: التحريم، أو: الوعيد، أو: القرآن، أقوال. ويتعلق: من ربه، بجاءته، أو: بمحذوف، فيكون صفة لموعظة، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه، الناظر له في مصالحه، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة. إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده، فانتهى تبع النهي، ورجع عن المعاملة بالربا، أو عن كل محرم من الاكتساب {فله ما سلف} أي ما تقدم له أخذه من الربا لا تبعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف، ومن كان يتجر هنالك. وهذا على قول من قال: الآية مخصوصة بالكفار، ومن قال: إنها عامة فمعناه: فله ما سلف، قبل التحريم. {وأمره إلى الله} الظاهر أن الضمير في: أمره، عائد على المنتهي، إذ سياق الكلام معه، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: أمره إلى طاعة وخير، وموضع رجاء، والأمر هنا ليس في الربا خاصة، بل وجملة أموره، وقيل: في الجزاء والمحاسبة، وقيل: في العفو والعقوبة، وقيل: أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة، لا إلى الذين عاملهم، فلا يطالبونه بشيء، وقيل: المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة، قال الحسن. وقيل: الضمير يعود على: ما سلف، أي في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل: يعود على ذي الربا، أي: في أن يثبته على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية. قاله ابن جبير، ومقاتل، وقيل: يعود على الربا أي في إمرار تحريمه، أو غير ذلك، وقيل: في عفو الله من شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي. {ومن عاد} إلى فعل الربا، والقول بأن البيع مثل الربا، قال سفيان: ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبراً: لمن، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد. وقال الزمخشري: وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق. إنتهى. وهو جارٍ على مذهبه الإعتزالي في: أن الفاسق يخلد في النار أبداً ولا يخرج منها، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات، وروي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وسأل مالكاً رحمه الله رجلٌ رأى سكران يتقافز، يريد أن يأخذ القمر، فقال: امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر، أتطلق امرأته؟ فقال له مالك، بعد أن ردّه مرتين: امرأتك طالق، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب. {يمحق الله الربا} أي: يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير؛ وعن ابن مسعود: أن الربا وإن كثر، فعاقبته إلى قل. وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقةٍ وصلة رحم وجهادٍ ونحو ذلك. {ويربي الصدقات} قيل: الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة، وقيل: الزيادة معنوية، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث. وقرأ ابن الزبير، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: يمحق ويربي، من: محق وربى مشدّداً. وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير. {والله لا يحب كل كفار أثيم} فيه تغليط أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم، وإن كان تعالى لا يحب الكافر، تنبيهاً على عظم أمر الربا ومخالفة الله وقولهم: {إنما البيع مثل الربا} وأنه لا يقول ذلك، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلاَّ مبالغ في الكفر، مبالغ في الإثم. وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان. وقال ابن فورك: ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في: كفار، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. إنتهى. وهذا فيه بعد، إذ إطلاق القرآن: الكافر، والكافرون، والكفار، إنما هو على من كفر بالله، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية، كقوله: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} وقال ابن فورك: ومعنى الآية: {والله لا يحب كل كفار أثيم} محسناً صالحاً، بل يريده مسيئاً فاجراً، ويحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم. وقال ابن عطية: وهذه تأويلات مستكرهة: أما الأول فأفرط في تعدية الفعل، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب، ولطف به، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه، نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن. إنتهى كلامه. والحب حقيقة، وهو الميل الطبيعي، منتف عن الله تعالى، وابن فورك جعله بمعنى الإرادة، فيكون صفة ذات، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهار الدلائل، فيكون صفة فعل وقد تقدّم الكلام على ذلك.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة، وأنه كافر أثيم، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين. وظاهر الآية العموم، وقال مكي: معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا ما أنزل عليهم، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات. إنتهى. ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية، وألفاظ الآية تقدّم تفسيرها. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} قيل: نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف، كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم، وقيل: في عباس، وقيل: في عثمان، وقال السدّي: في عباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم، فنزلت. ولما تقدّم قوله: {فله ما سلف} وكان المعنى: فله ما سلف قبل التحريم، أي: لا تبعة عليه فيما أخذه قبل التحريم، واحتمل أن يكون قوله: ما سلف، أي: ما تقدّم العقد عليه، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم، أزال تعالى هذا الإحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة، قبل التحريم، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم، وناداهم بإسم الإيمان تحريضاً لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا، وبدأ أولاً بالأمر بتقوى الله، إذ هي أصل كل شيء، ثم أمر ثانياً بترك ما بقي من الربا. وفتحت عين: وذروا، حملاً على: دعوا، وفتحت عين: دعوا، حملاً على: يدع، وفتحت في يدع، وقياسها الكسر، إذ لامه حرف حلق وقرأ الحسن: ما بقا، بقلب الياء ألفاً، وهي لغة لطيء، ولبعض العرب. وقال علقمة بن عبدة التميمي: زها الشوق حتى ظل إنسان عينه *** يفيض بمغمور من الماء متأق وروي عنه أيضاً أنه قرأ: ما بقي، باسكان الياء وقال الشاعر: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي *** على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا وقال جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف {إن كنتم مؤمنين} تقدّم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم: {يا أيها الذين آمنوا} وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلاً فافعل كذا قاله ابن عطية، أو بأن المعنى: إن صح إيمانكم، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك، قاله الزمخشري، وفيه دسيسه اعتزال، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمناً، مدعى المعتزلة. وقيل: ان بمعنى إذ أي إذ كنتم مؤمنين قاله مقاتل بن سليمان، وهو قول لبعض النحويين، أن: إن، تكون بمعنى: إذ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة، وقيل: هو شرط يراد به الاستدامة، وقيل: يراد به الكمال، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصرّ الإنسان على كبيرة، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر، هذا وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها، وقيل: الإيمان متغاير بحسب متعلقه، فمعنى الأول: {يا أيها الذين آمنوا} بألسنتهم. ومعنى الثاني: {إن كنتم مؤمنين} بقلوبكم. وقيل: يحتمل أن يريد: يا أيها الذي آمنوا بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلاَّ بهذا، قاله ابن فورك. قال ابن عطية: وهو مردود بما روي في سبب الآية. إنتهى. يعني أنها نزلت في عباس، وعثمان، أو في عباس، وخالد، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء، وقيل: هو شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. إنتهى. وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلاَّ على تأويل استدامة الإيمان، وذكر ابن عطية: أن أبا السماك، وهو العدوي، قرأ هنا: من الرِّبو، بكسر الراء المشدّدة وضم الباء وسكون الواو، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله: {الذين يأكلون الربا} وشيئاً من الكلام عليها. وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين، أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءً لازماً، والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الأسم، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل، نحو: يغزو، ويدعو. وأما ذو، الطائية بمعنى: الذي فشاذة جداً، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فتقول: رأيت ذا قام. وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة. إنتهى كلام أبي الفتح. ويعني بقوله: بناءً لازماً، أنه قد يكون ذلك عارضاً نحو: الحبك، فكسرة الحاء ليست لازمة، ومن قولهم الردؤ، في الوقف، فضمة الدال ليست لازمة، ولذلك لم يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل، وأما قوله: وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل، نحو: يغزو، فهذا كما ذكر إلاَّ أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع، فله أن يقول: لما لم يكن ذلك لازماً في النصب والجر، لم يكن ناقصاً لما ذكروا، ونقول: إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة تغزو. {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ظاهره: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا، وسمي الترك فعلاً، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى. وقال الرازي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله، ومن ذهب إلى هذا قال: فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها. وقرأ حمزة، وأبو بكر في غير رواية البرجمي، وابن غالب عنه: فآذنوا، أمر من: آذن الرباعي بمعنى: أعلم، مثل قوله: {فقل آذنتكم على سواء} وقرأ باقي السبعة: فأذنوا، أمر من: أذن، الثلاثي، مثل قوله: {لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن} وقرأ الحسن: فأيقنوا بحرب. والظاهر أن الخطاب في قوله: {فإن لم تفعلوا} هو لمن صدرت الآية بذكره، وهم المؤمنون، وقيل: الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا، فعلى هذا المحاربة ظاهرة، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب، كما جاء: «من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة» وقيل: المراد نفس الحرب. ونقول: الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة، أو ممن لا يقدر عليه، حاربه كما تحارب الفئة الباغية. وقال ابن عباس: من عامل بالربا يستتاب، فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه. ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحاً للربا، مصراً على ذلك، ومعنى الآية: فإن لم تنتهوا حاربكم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى: فأنتم حرب الله ورسوله، أي: أعداء. والحرب داعية القتل، وقالوا: حرب الله النار، وحرب رسوله السيف. وروي عن ابن عباس أنه: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب» والباء في بحرب على قراءة القصر للإصاق، تقول: أذن بكذا، أي: علم، وكذلك قال ابن عباس وغيره: المعنى فاستيقنوا بحرب من الله. وقال الزمخشري: وهو من الأذن، وهو الاستماع، لأنه من طريق العلم. إنتهى. وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر. وقال ابن عطية: هي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قيل لهم: قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله. ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون، إذ هم الآذنون فيها، وبها، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله، وتيقنهم لذلك. إنتهى كلامه. فيظهر منه ان الباء في: {بحرب} ظرفية. أي: فاذنوا في حرب، كما تقول أذن في كذا، ومعناه أنه سوغه ومكن منه. قال أبو علي: ومن قرأ فآذنوا بالمدّ، فتقديره: فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم. فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد. وقال الطبري: قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المدّ بإعلام غيرهم، وقال ابن عطية: والقراءتان عندي سواء، لأن المخاطب محصور، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل: فآذنوا، فقد عمهم الأمر. وإن قيل: فآذنوا، بالمدّ فالمعنى: أنفسكم، أو: بعضكم بعضاً. وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبت، فأعلموا نفوسكم هذا، ثم انظروا في الأرجح لكم: ترك الربا أو الحرب. إنتهى. وروي: أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يد لنا بحرب الله ورسوله. ومن، في قوله: من الله، لابتداء الغاية، وفيه تهويل عظيم، إذ الحرب من الله تعالى ومن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يطيقه أحد، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف، أي: من حروب الله. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. إنتهى. وإنما كان أبلغ لأن فيها نصاً بأن الحرب من الله لهم، فالله تعالى هو الذي يحاربهم، ولو قيل: بحرب الله، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل، فيكون الله هو المحارب لهم، وأن تكون مضافة للمفعول، فيكونوا هم المحاربين الله. فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله. {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} أي: إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال: أصولها، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها. قال بعضهم: إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله، فيصير مالهم فيأ للمسلمين، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلاَّ ذلك، ومفهوم الشرط أنه: إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم، وتسمية أصل المال رأساً مجاز. {لا تظلمون ولا تظلمون} قرأ الجمهر الأول مبنياً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول، أي: لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال، وقيل: بالمطل. وقرأ أبان، والمفضل، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبيناً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: وإن تبتم، في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله. والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة، وقيل: الجملة حال من المجرور في: لكم، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل، قاله الأخفش. {وإن كان ذو عسرة فظرة إلى ميسرة} شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا، فنزلت. قيل: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وقيل: أمر به في صدر الإسلام، فإن ثبت هذا فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه: جيش العسرة، والنظرة: التأخير، والميسرة: اليسر. وقرأ الجمهور: ذو عسرة، على أن: كان، تامة، وهو قول سيبويه، وأبي علي، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون: كان، ناقصة هنا. وقدّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر، وقدر أيضاً: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا، لا إقتصاراً ولا اختصاراً لعلة ذكروها في النحو. وقرأ أبي، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس: ذا عسرة. وقرأ الأعمش: معسراً. وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان إسمها ضميراً تقديره: هو، أي: الغريم، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه. وقرئ: ومن كان ذا عسرة، وهي قراءة أبان بن عثمان. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان: فإن كان، بالفاء، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسراً، وذلك بعد: إن كان، فقيل: يختص بأهل الربا. ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا، وفيهم نزلت. وقيل: ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار، وأن العدم طارئ جاذب يحتاج إلى أن يثبت. {فنظرة إلى ميسرة} قرأ الجمهور: فنِظرة، على وزن نِبقة. وقرأ أبو رجاء، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة: بسكون الظاء وهي لغة تميمية، يقولون في: كبد كبد. وقرأ عطاء: فناظرة، على وزن: فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} وكقوله: {تظن أن يفعل بها فاقرة} وكقوله: {يعلم خائنة الأعين} وقال: قرأ عطاء: فناظره، بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو: صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب، وباقل، بمعنى: ذو عشب وذو بقل. وعنه: فناظره، على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها. إنتهى. ونقلها ابن عطية. وعن مجاهد: جعلاه أمراً، والهاء ضمير الغريم. وقرأ عبد الله: فناظروه، أي: فأنتم ناظروه. أي: فأنتم منتظروه. فهذه ست قراآت، ومن جعله اسم مصدر أو مصدراً فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه. وقرأ نافع وحده: ميسرة، بضم السين، والضم لغة أهل الحجاز، وهو قليل؛ كمقبرة، ومشرفة، ومسربة. والكثير مفعلة بفتح العين. وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة، وهي لغة أهل نجد. وقرأ عبد الله: إلى ميسوره، على وزن مفعول مضافاً إلى ضمير الغريم، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم: ما له معقول ولا مجلود، أي: عقل وجلد، ولم يثبت سيبويه مفعولاً مصدراً، وقرأ عطاء ومجاهد: إلى ميسره، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم. وقرئ كذلك بفتح السين، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة. كقوله: واخلفوك عد الأمر الذي وعدوا *** أي: عدة، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين، وأداهم إلى هذا التأويل: أن مفعلاً ليس في الأسماء المفردة، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد: أبلغ النعمان عنى مألكا *** أنه قد طال حبسي وانتظار وفي قول جميل: بثين الزمي لا إنَّ لا إن لزمته *** على كثرة الواشين أي معون فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة. وكذلك قوله: ليوم روع أو فعال مكرم *** هذا تأويل أبي علي، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء. وقال سيبويه: ليس في الكلام مفعل، يعني في الآحاد، كذا قال أبو علي، وحكي عن سيبويه: مهلك، مثلث اللام. وأجاز الكسائي أن يكون: مفعل، واحداً ولا يخالف قول سيبويه، إذ يقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان، كأنه لا يعتد بالقليل، ولا يجعل له حكم. وتقدّم شيء من الإشارة إلى الخلاف: أهذا الإنظار يختص بدين الربا؟ وهو قول ابن عباس، وشريح، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره؟ وهو قول أبي هريرة، والحسن، وعطاء، والضحاك، والربيع بن خيثم، وعامة الفقهاء. وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة، منها: «من أنظر معسراً، ووضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» ومنها: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول: يا رب ما عملت لك خيراً قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالاً فكنت أوسع على المقتر، وأنظر المعسر، فيقول الله عز وجل: أنا أحق بذلك منك. فتجاوزوا عن عبدي» {وأن تصدقوا خير لكم} أي: تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار، قاله الضحاك والسدي، وابن زيد، والجمهور. وقيل: وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة، وهذا ضعيف، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين، فالحمل على فائدة جديدة أولى. ولأن: أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها، والمراد بالخير: حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة. وقال قتادة: ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير. وقرأ الجمهور: وأن تصدقوا، بادغام التاء في الصاد، وقرأ عاصم: تصدقوا، بحذف التاء. وفي مصحف عبد الله: تتصدقوا، بتاءين وهو الأصل، والإدغام تخفيف. والحذف أكثر تخفيفاً. {وإن كنتم تعلمون}: يريد العمل، فجعله من لوازم العلم، وقيل: تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض، وقيل: تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم. قيل: آخر آية نزلت آية الربا، قاله عمر، وابن عباس، ويحمل على أنها من آخر ما نزل، لأنه الجمهور قالوا: آخر آية نزلت: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} فقيل: قبل موته بتسع ليال، ثم لم ينزل شيء. وروي: بثلاث ساعات، وقيل: عاش بعدها صلى الله عليه وسلم أحداً وثمانين يوماً. وقيل: أحداً وعشرين يوماً. وقيل: سبعة أيام. وروي أنه قال: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين» وروي أنه قال عليه السلام: جاءني جبريل فقال: إجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة. وتقدم الكلام على: واتقوا يوماً، في قوله: {واتقوا يوماً لا تجزى} وقرأ يعقوب، وأبو عمرو: ترجعون، مبنياً للفاعل، وخبر عباس عن أبي عمرو، وقرأ باقي السبعة مبنياً للمفعول وقرأ الحسن: يرجعون، على معنى يرجع جميع الناس، وهو من باب الالتفات. قال ابن جني: كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب، فقال لهم: واتقوا، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقاً بهم. انتهى. وقرأ أبي: تردون، بضم التاء، حكاه عنه ابن عطية. وقال الزمخشري: وقرأ عبد الله: يردون. وقرأ أبي: تصيرون. انتهى. قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة، وقال قوم: هو يوم الموت، والأول أظهر لقوله: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه. {ثم توفى كل نفس} أي تعطى وافياً جزاء {ما كسبت} من خير وشر، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب، وفيه ردّ على الجبرية. {وهم لا يظلمون} أي: لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب، وأعاد الضمير أولاً في: كسبت، على لفظ: النفس، وفي قوله: وهم لا يظلمون، على المعنى لأجل فاصلة الآي، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة، ومن قرأ: يرجعون، بالياء فتجيء: وهم، عليه غائباً مجموعاً لغائب مجموع.
|